تحديد موضع النزاع في العرائض

تحديد موضع النزاع في العرائض أمام القضاء اليمني

أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
https://am-shjaaaldeen.blogspot.com/2024/04/blog-post_26.html
▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂

▪️
من المبادئ الحاكمة لإجراءات التقاضي حياد القاضي الذي يمنع القاضي من تلقين الخصوم أو توجيههم بشأن إعداد مذكراتهم وعرض دعاويهم وادلتهم، ولذلك فأنه يتحتم على الخصوم أنفسهم العناية البالغة في تحرير وصياغة مذكراتهم وعند إلقاء مرافعاتهم أمام القضاء، والتركيز في العرائض والمرافعات على بيان مواضع النزاع وتحديدها وتقديم الأدلة عليها إثباتاً ونفياً بدلاً من العرائض أو المذكرات المطوّلة التي يقدمها الخصوم التي تتسبب في ضياع حقائق ومواضع النزاع بين الصفحات الكثيرة للمذكرات والعرائض المطوّلة التي تستدعي من القاضي أن يقوم بالتنقيب والدراسة والبحث في تلك العرائض لتشخيص وتحديد مواضع النزاع بين الخصوم نتيجة عدم تركيز الخصوم في مرافعاتهم على تحديد نقاط النزاع أو مواضع النزاع، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 17-8-2016م في الطعن رقم (58220)، الذي ورد ضمن أسبابه: ((وعليه فإن الدائرة: تقبل هذا الطعن وتوجه الشعبة إلى إعادة نظر خصومة الاستئناف في ضوء الاستئناف الجزئي والرد عليه وتكليف المهندس بإستكمال مهمته في تقييم الأعمال المنجزة، وتقوم الشعبة بتحديد نقاط الخلاف ليقوم كل طرف بإثبات ما يدعيه بطرق الإثبات المحددة قانوناً وليس بتقديم عرائض، لأن هذه العرائض لا ثمرة منها في بيان الحقيقة وصولاً إلى حكمٍ عادل في الخصومة))، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:
▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂
▪️ الوجه الأول: إشكاليات المذكرات أو العرائض المطوّلة عند التقاضي في اليمن:
▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂

▪️
صرح الحكم محل تعليقنا بعد أن نقض الحكم الاستئنافي صرح بإعادة نظر خصومة الاستئناف مجدداً عن طريق تحديد مواضع النزاع أو الخلاف بين الخصمين وإلزام كل خصم بالإثبات أو النفي بحسب مركز الخصم في القضية، واشترط الحكم محل تعليقنا بأن لا يكون ذلك عن طريق العرائض، وصرح الحكم بأنه يجب أن يتم النظر في الخصومة من قبل محكمة الاستئناف في جلسات متتالية، لأن القضية قد طالت بسبب ضياع حقائق النزاع ومواضعه بسبب المرافعات والعرائض المطوّلة.
وتكمن القيمة العلمية للحكم محل تعليقنا أنه قد كشف اللثام عن تأثير العرائض المطوّلة في إطالة إجراءات التقاضي وتعقيدها في اليمن، فالعرائض والمذكرات المقدمة إلى القضاء في اليمن لازالت متأثرة بمدرسة قدامي المحامين في مصر قبل 1930، فمثلاً مازالت مرافعات المحامين المصريين خلال الفترة السابقة ل 1930 مثل مرافعات سعد زغلول المتوفى 1927م مازالت هذه المرافعات مادة معرفية في اليمن تصاغ المذكرات والعرائض القضائية على غرارها حتى الآن (2024م)، ولذلك نلاحظ أن العرائض والمذكرات المقدمة إلى القضاء في اليمن تتكون من اقسام وفقرات عدة أغلبها مكررة تتضمن وقائع ومسائل ومواضيع لا علاقة لها ولا صلة بموضع الخلاف أو مواضع الخلاف، إضافة إلى تضمين العرائض غريب اللغة وشاذها، وأبيات الشعر والإقتباسات المطوّلة من الكتب والمراجع والأحكام القضائية، مع ان المطلوب في العريضة هو بيان موضع الخلاف والنص القانوني الواجب التطبيق عليه وشرحه المختصر وادلة الخصم على مايذكره بشأن موضع النزاع ، ومن المؤكد انه يترتب على العرائض المطوّلة غموض موضع النزاع بل طمر مواضع النزاع في متن العريضة حيث تحتاج العريضة إلى تنقيب ودراسة وبحث لتحديد مواضع النزاع حسبما اشار الحكم محل تعليقنا.
وعند الرد على العريضة يقوم الخصم الآخر بالرد في غالب الأحيان على كل كلمة وفقرة في العريضة فتكون عريضة الرد أكثر طولاً من العريضة محل الرد فيقوم المدعي أو الطاعن بالتعقيب على مذكرة الرد بمذكرة تعقيب أكثر طولاً من مذكرة الرد، ويظل المدعي والمدعى عليه أو الطاعن أو المطعون ضده يتبادلا العرائض والمذكرات خلال فترة التقاضي الطويلة أصلاً، فتضيع الحقيقة وتضيع مواضع النزاع في ركام هذه العرائض وتضيع معها العدالة، فيشق على القاضي أو غيره دراسة القضية ومعرفة الحقيقة بل يشق على القاضي تحديد مواضع أو موضع النزاع حسبما اشار الحكم محل تعليقنا.
ولذلك فإن العرائض المطوّلة المتبادلة بين الخصوم خلال فترة التقاضي الطويلة من أهم أسباب إطالة إجراءات التقاضي وإرهاق القضاة والمتقاضين في اليمن .
▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂
▪️ الوجه الثاني: وضعية القضاة في اليمن فيما يتعلق بالعرائض والمذكرات الطويلة:
▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂

▪️
حسب الدراسات في عام 2014م فإن هناك في اليمن قاضي واحد لكل مائة وسبعون ألف مواطن في حين أن في مصر القاضي الواحد لكل ثلاثين ألف مواطن، والدول الأخرى القاضي الواحد لما بين ستة ألاف وتسعة آلاف مواطن، ومازالت هذه المعادلة مختلة في اليمن حتى الأن، فمازال عدد القضاة ضئيلاً جداً قياساً بعدد السكان وعدد القضايا ، إضافة إلى عدم توفر الإستشارات والخدمات القانونية لغالب سكان اليمن مما يزيد من عدد القضايا فضلاً عن الإختلالات والإشكاليات التي يعاني منها المجتمع اليمني وكل هذه العوامل وغيرها تساهم في زيادة عدد القضايا وقلة القضاة، وعلى هذا الأساس فإن معدل عدد القضايا التي ينظرها القاضي اليمني من أكثر وأعلى المعدلات في العالم. (تطور وتطوير القضاء في اليمن، أ.د. عبدالمؤمن شجاع الدين، صـ65).
وعلى هذا الأساس ينبغي أن يكون هذا المفهوم حاضراً في أذهان الخصوم عند صياغتهم للعرائض أو المذكرات المقدمة إلى القضاء، فالقضاة منهمكون في الصباح في الجلسات وبعد ذلك يعكفوا على ملفات القضايا، فبعض القضاة ينظر في اليوم الواحد أكثر من ثلاثين قضية في الجلسة الواحدة وبعد أن يفرغ من الجلسة ويعود إلى داره يدرس القاضي ثلاثين ملفا للقضايا التي سينظرها في جلسة اليوم التالي، ومن هذا المنطلق فإن القاضي يحتاج إلى وقت وجهد للبحث في عرائض الخصوم المتبادلة الطويلة لتحديد موضع النزاع، فمن فرط المرارة التي يعاني منها القضاة في اليمن من العرائض المطوّلة وردت في الحكم محل تعليقنا عبارة (تحديد موضع النزاع من غير عرائض)!!؟!!!.
▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂
▪️ الوجه الثالث: المقصود بتحديد مواضع النزاع:
▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂

▪️
في كثير من الدول العربية ينسب مصطلح (تحديد موضع النزاع) ظلما للقضاء الفرنسي بل أنه يطلق عليه في كثير من الدول العربية الطريقة الفرنسية التي تعني أن يقوم القاضي بتحديد أوجه الإتفاق بين الخصوم فلا يسهب القاضي في مناقشتها ثم يحدد القاضي أوجه الخلاف بين الخصوم، والحقيقة أن هذه الطريقة إسلامية المنشأ فهي وليدة المنهجية المتبعة عند فقهاء الفقه المقارن أو فقه الخلاف، فقد اتبع فقهاء الفقه المقارن هذه الطريقة منذُ عصر الدولة العباسية، فكان الفقهاء يتبعوا هذه المنهجية في دراسة المسائل الفقهية، فيبدأ الفقيه في المرحلة الأولى بما يسمى تصور المسألة لأن الحكم على المسألة فرع من تصورها، وفي المرحلة الثانية يقوم الفقيه بتحرير موضع النزاع وهو تحديد أوجه الإتفاق والخلاف بين الفقهاء بشأن المسألة الفقهية فيستبعد مواضع الإتفاق والاجماع ويركز على مواضع الخلاف بشأن المسألة الفقهية محل الدراسة، وفي المرحلة الثالثة يقوم الفقيه بعرض أقوال الفقهاء وأدلتهم بشأن المسألة محل الخلاف، وفي المرحلة الأخيرة يقوم الفقيه بالترجيح بين أدلة المختلفين فيختار القول الراجح في المسألة، وهذه المنهجية هي ذاتها التي يتبعها القاضي المعاصر عند تسبيبه للحكم. (الفقه المقارن، أ.د. عبدالمؤمن شجاع الدين، ص31 مقرر جامعي لطلبة الدراسات العليا دبلومي الشريعة الإسلامية والقانون العام، الطبعة العاشرة).
وعلى هذا الأساس فإن مصطلح (تحرير موضع النزاع) مفهوماً وتطبيقاً ينسب إلى الفقه الإسلامي وليس للقضاء الفرنسي.
ومدلول مصطلح تحديد موضع النزاع حسبما أشار اليه الحكم محل تعليقنا: هو أن يقوم الخصوم في سياق عرائضهم ومرافعاتهم الشفوية أمام القضاء ببيان وتحديد الشيء أو الموضع محل الخلاف والأدلة على صحة أقوالهم بشأن موضع النزاع، وأن يكون هذا الأمر بارزاً وظاهراً في مرافعات الخصوم الكتابية والشفوية حتى يسهل للقاضي دراسة القضية والوقوف على الحقيقة، لذا ينبغي على الخصوم التركيز عند إعداد العرائض المذكرات الابتعاد عن الطريقة الكلاسيكية في إعداد العرائض وهي طريقة المحامين المصريين المتقدمين التي تعتمد على تقسيم المذكرة إلى (وقائع/ أسانيد/ طلبات)، فعلى الخصم أن يذكر الواقعة محل الخلاف مع أسانيدها معاً في موضع واحد كما ألمح الحكم محل تعليقنا ثم يذكر الطلبات فلا يفرق بين الواقعة واسانيدها، وهذا يعني أن العريضة تتكون من قسمين فقط (أولاً: وقائع الدعوى واسانيدها/ ثانياً: الطلبات)، فلاينبغي الفصل بين الوقائع واسانيدها، لانه من المتعذر فهم القاضي للواقعة والتحقق من صحتها الا اذا كانت الواقعة واسانيدها في موضع واحد من العريضة، وحتى تكون العريضة واضحة ومختصرة، (مهارات الصياغة القانونية، أ.د. عبدالمؤمن شجاع الدين)، والله اعلم.
https://t.me/AbdmomenShjaaAldeen

أضف تعليق